الإنسان والجهاد تميل غريزة الإنسان نحو الراحة والدعة، وتكره كل ما يسلب منها الراحة ويورث العناء وتبتعد تلقائياً عن الأمور الممزوجة بالمخاطر.
وأحكام الشريعة تضبط هذه الغرائز بما يتلاءم مع مصلحة الفرد والمجتمع على حد سواء.
ومن هنا كان تشريع الجهاد بما فيه من الآثار الهامة، يقول الله تعالى:
(
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(1).
ويشير القرآن الكريم إلى أمثلة كثيرة لتخلّف الناس عن الدعوة القائمة لجهاد العدو والدفاع عن الأرض والعرض والكرامة، ففي سيرة بني إسرائيل أنهم وبعد النبي موسى (ع)، تخلّفوا عن الالتزام بهذا الواجب المقدس، إلا القليل منهم، يقول سبحانه وتعالى:
(
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)
(2).
فضل الجهادتشير الكثير من الآيات القرآنية والروايات الشريفة إلى فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وتفضيل الإنسان المجاهد على القاعد والمتكاسل عن القيام بواجبه في الدفاع عن أمته ووطنه.
ففي الآية الشريفة يقول الله تعالى:
(
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)
(3). وتشير بعض الروايات إلى المكانة المرموقة التي يحتلها الجهاد في سبيل الله بين العبادات الشريفة ففي الحديث عن أحدهم عن أبي جعفر (ع) : قال: «ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك قال: أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد»
(4).
والسنام هو المكان المرتفع في ظهر الجمل، وهي أعلى نقطة في الظهر، والتشبيه بالسنام في الرواية بل وذروة السنام، واضح في تبيان مكانة الجهاد في رأس هرم الشريعة.
يقول الشيخ الكلينيء صاحب كتاب الكافي تعليقا على هذه الرواية: «الجهاد ذروة سنامه لأنه سبب لعلو الإسلام».
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: «أتى رجل رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط قال: فقال له النبي (ص): فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل تكن حياً عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله وإن رجعت، رجعت من الذنوب كما ولدت»
(5).
وللمجاهدين في سبيل الله تعالى مراتب عالية من الكرامة في الآخرة منها ما أشار له الحديث الشريف عن رسول الله الأكرم (ص): «إن جبرائيل أخبرني بأمر قرت به عيني وفرَّح به قلبي قال: يا محمد من غزا غزاة في سبيل الله من أمتك فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلا كانت له شهادة يوم القيامة»
(6).
لماذا فرض الله الجهاد؟للجهاد في سبيل الله تعالى أثار كبيرة في الدنيا، فمن آثاره صلاح المجتمعات وتحريرهم من العبودية لغير الله تعالى، وإخراجهم من ولايتهم للعبيد والملوك والترنح تحت سطوة رغباتهم إلى رحب الإسلام وعزته التي تعمّ الجميع على حدٍ سواء، وكذلك في الجهاد حفاظ على الدين والمؤمنين.
وهذا ما أشارت له الرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) في رسالة إلى بعض خلفاء بني أمية حيث يقول (ع) فيها: «ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضله الله عز وجل على الأعمال وفضل عامله على العمال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة والرحمة، لأنّه ظهر به الدين وبه يدفع عن الدين وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة بيعاً مفلحاً منجحاً، اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله عز وجل من طاعة العباد وإلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد»
(7).
ومن المعاني المستفادة من هذه الرواية:
1 - معرفة الرجال بالحق:فلا أحد غير الرسل والمعصومين (ع) ومن نصّب منهم علم للحق، ويقيّم الآخرون كل الآخرين مهما علت مقاماتهم بمدى التزامهم بمنهج الحق، وهذا ما يحرر الفكر من التبعية للشخص، ويخرجه من الأشخاص، بحيث لا يحتكر من قبل القادر والقوي.
2 - الخروج من عبادة الهوى:وقد تحدثنا أن هوى النفس ميال للدعة والراحة، وبالجهاد نخرج من عبادة الهوى ونمنع الغرائز من الطغيان.
3 - الانقياد للحاكم الظالم:فمن معاني العبودية لغير الله تعالى والتي يهدف الجهاد إلى محوها من المجتمع الإسلامي الانقياد للحاكم الظالم، من خلال الثورة عليه ومنعه من بيع مصالح الأمة للأجنبي والدخيل.
4 - رفض ولاية المفسدين:ومن تلك المعاني رفض المعطلين لحدود الله تعالى، والمفسدين وعدم الاعتراف بولايتهم على رقاب الناس، والخروج من ولايتهم لولاية من يقيم أمر الله تعالى ونهيه، فيأمر بالخير وينهى عن الفساد.
الجهاد وكرامة الأمةيورث الجهاد الكرامة للأمة، إذ أن الأمة التي تجاهد وتحافظ على أرضها وكيانها من التدخل الخارجي، والغزو العسكري والفكري والثقافي، أمة عزيزة تتمتع بأعلى معايير الكرامة التي يطمح لها إنسان، وهذا ما أشارت له الكثير من الروايات الشريفة فعن أبي عبد الله (ع) قال: قال النبي (ص): «اغزوا تورثوا أبناء كم مجداً»
(.
وأشارت العديد من الروايات الشريفة إلى أن ترك الجهاد في سبيل الله هو سبب في مذلة الأمة وانسلاخ العزة والكرامة منها، وتخبطها بالعار والفقر ففي الرواية المشهورة عن أمير المؤمنين (ع):
«أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه وسوغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، وفارق الرضا، وديِّثَ بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد
(9)، وأديل
(10) الحق منه بتضييع الجهاد، وسئم
(11) الخسف ومنع النصف
(12) -
(13).
وعن الرسول الأكرم (ص): «للجنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف، والملائكة ترحب بهم، ثم قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله عز وجل ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه»
(14).
الجهاد الأكبر والأصغرصنف الرسول الأكرم (ص) الجهاد إلى قسمين، والذي نتحدث عنه هنا هو الجهاد الأصغر، ولكي يوفق الإنسان في هذا الجهاد ويصل به لمرتبة يصبح فيها عبادة حقيقية لله تعالى وليكن سناما لذروة الدين كما في الحديث ينبغي على الإنسان المسلم أن لا يغفل عن جهاد أكبر أشارت له الرواية المشهورة فعن أبي عبد الله الصادق (ع) : «أن النبي صلى الله عليه وآله بعث بسريَّةٍ فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»
(15).
ولنتذكر خطبة الجهاد «فتحه الله لخاصة أوليائه» فإن المجاهد الحقيقي هو من أولياء الله الذين استطاعوا أن يهذبوا أنفسهم ويبتعدوا بها عن الأخلاق السيئة والمعاصي الرذيلة، فلا جهاد حقيقي دون تهذيب النفس، ومن جهة أخرى فالجهاد هو أيضاً من مصاديق تهذيب النفس لأن فيه مخالفة للهوى والغرائز التي تدعو للاسترخاء (
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، فلا جهاد حقيقي من دون تهذيب النفس، ولا تهذيب نفس حقيقي دون جهاد، ما دام الإنسان مكلفاً به شرعاً وقادراً عليه بدنياً.
وفي النهاية نخلص إلى أن مياديننا الأولى أنفسنا فإن قدرنا عليها فنحن على غيرها اقدر وإن عجزنا في جهاد رغباتها فسينعكس ذلك على حياتنا وجهادنا وأعمالنا كلها.